أين الدين-العولمة والوطن من التنوع الثقافي؟

أين الدين-العولمة والوطن من التنوع الثقافي؟
أ.د. فتحي سالم أبوزخار
المركز الليبي للدراسات الأمازيغية
طرابلس/ليبيا
المستخلص:
تأتي التعددية الثقافية بأشكال وألوان مختلفة ضمن المنظومة الأنسانية. وقد تظهر لنا العولمة بشكل يتناقض مع التعددية الثقافية وذلك بما تحاول أن تفرضه من شكل اقتصادي وسلع محددة في المأكل والملبس، وحتى المسكن، وبما في ذلك وسائل الاتصال والتواصل والترفيه. كما أن ما تطالعه لنا الأحداث التاريخية أن أتباع الأديان لم يختلفوا كثيراً، ولو ظاهرياً، عن صناع وحتى اتباع ايديولوجية العولمة الجديدة. فبالرغم من أن القيم الدينية ترنو لقبول التعددية واحترام الاختلاف الثقافي، كقاعدة يمتثل لها الوجود، إلا أن الأتباع لا يمتثلوا كثيراً لتك القيم بل يوظفوا الدين في استحواذ ثقافة معينة ولغة محددة على حساب الثقافات، واللغات الأخرى. فالتعددية الثقافية ضمن جدلية القيم الدينية والأتباع ستكون مثار جدل دراستنا. وسنحاول تناول التعددية الثقافية من عدة جوانب وزوايا آملين أن نضع القارئ في صورة ما تنتهي وتصل إليه هذه الدراسة من أفكار قد تكون مفيدة.
المقدمة:
يطرح السيد فيليب ديريبارن في كتابه “التفكير في تنوع العالم” [1] سؤالاً مهماً عن التنوع الثقافي فيقول: “هل يتعلق الأمر بإرث من الماضي قبل الحديث، محكوم عليه بالانقراض في مدة وجيزة أو طويلة تحت تأثر عولمة الاقتصاد مضافة إلى انتصار الديمقراطية وحقوق الإنسان في مجموع أنحاء كوكبنا ؟ أو يتعلق الأمر بشيء أكثر دواماً ؟ ” الوقوف عند هذا السؤال يدفعنا لطرح سؤال أخر هل العولمة جديدة بالعالم ؟ هل البشر حديثي عهد بالعولمة أم سبق وأن مورست عليهم ابان حقبا تاريخية قديمة ؟ وبمراجعة بسيطة يتضح لنا بأن جميع الإمبراطوريات التي ظهرت حاولت أن تمارس بصورة أو أخرى العولمة .. فمع بسط السيطرة كان السعي لنشر لغتها وما يحتويه وعاء اللغة من ابعاد ثقافية. معظم الامبراطوريات وظفت الدين لاستخدامه في بسط سيطرتها فالحضارة الصينية استعانت بالكنفوشوسية والهندية بالبوذية ، والفارسية بالزرداشتية، ومارست العربية السلطة باستغلال الديانة الإسلامية، وكذلك التركية، ودانت اليونانية بالوثنية، والرمانية بالمسيحية إلا أن العولمة الحديثة مع أن في روحها المسيحية إلا أن الإعلان عنها يتم باستحياء نتيجة لقيم الحرية والديمقراطية التي تسيطر عليها لدرجة تخفف من حدت الدين بإطروحاتها ومع هذا اختير جسر التجارة في أعياد الميلاد للعبور إلى قلوب الناس والدعوة للمسيحية.
استخدام الدين في بسط سيطرة امبراطورية معينة نجح إلى حدٍ بعيد في الماضي إلا أن الاتجاهات الإنسانية غلبت على الملامح المسيحية في العولمة المعاصرة وأعطت براح أشمل وأوسع للتنوع الثقافي مع المحاولات المستميتة في فرض ثقافة انجلوسكسونية مسيحية. وقد نجحت إلى حدٍ بعيد في غرس ثقافة الهامبرجر والكوكاكولا والجينز.
ضمن الترويج لنفسها نجد أن العولمة تسمح وبقدر، وهذا من حسن حظ الثقافات المحدودة وبعكس ما يراه فيليب، أن تلقى قدر من الرعاية والاهتمام لتظهر بالشكل الإنساني الديمقراطي ضمن منظومة حقوق الإنسان التي لا يمكن التملص منها.
وربما يترائ لفيليب بأن التنوع الثقافي كماضي سيدوب في خلاط العولمة الاقتصادية الذي بات يجهز لتصنيع خلطة ثقافية ، وبلغة محددة، لأنماط وأساليب العيش والترفيه ستضيع فيه أي ملامح للتنوع الثقافي. سؤال فيليب مهم ونحن بدورنا سنحاول أن نجد بعض الإجابات ، وبطريقتنا ، لهذا السؤال المحير ضمن هذه الدراسة.
ولكن سيستمر الخوف كل الخوف لو نجت رياح العولمة في اكتساح بحر الثقافات وتكسرت أمامها صواري بقية الثقافات وصدقت نبؤه العالم الأمازيغي أبن خلدون [8] حين يقول: ” وإذ تبدلت الأحوال جملة فكأنما بدل الخلق من أصله وتحول العالم بأسره وكأن خلق جديد ونشأة مستأنفة وخلق جديد” .
الدين الإسلامي ومفهوم التنوع:
يود الباحث أن يؤكد على نقطة مهمة وهي أن التاريخ الإسلامي لا يعني الإسلام ونحن هنا بصد الدين الإسلام الذي ليس بالضرورة مرتبط بالتعاليم الإسلامية. وكما اسلفنا عبر التاريخ استغل العرب والأتراك الدين الإسلامي لبسط سيطرتهم ونشر ثقافتهم وهيمنة لغتهم. وإذا ما نظرنا لذلك من وجهة نظر الدين الإسلامي فالإسلام براء من ذلك براءة الذئب من دم يوسف. فإذا تمعنا في كلام رب العزة حيث يقول: “إنا جعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله اتقاكم” .. فمبدأ التنوع تحكمه الإرادة الإلهية والتلاقح من خلال التعارف هدف لهذا التنوع والأفضلية ليست من حق أي نوع سواء كان شعب أم قبلية .. فهي مرهونة بالولوج للقلوب وهذا اختصاص رباني تفرد به الخالق سبحانه.
بل نجد أن العرب وصل بهم التغرير بالثقافات الأخرى بأن الحفاظ على الدين ، وتحديداُ القرآن العظيم، لا يتأتى إلا من خلال المحافظة على اللغة العربية ، وضمناً الثقافة العربية، مستغلين للدين في بسط ثقافتهم متناسين أن الله عز وجل تعهد بنفسه سبحانه وقال : “إنا نزلنا الذكرى وإنا له لحافظون” سورة الحجر آية 9. فهد الدليل القطعي في ورده ودلالته لم يقنع المتعصبين في الماضي والحاضر بقبول التنوع الثقافي ورحمة الأمم والشعوب التي جارت أسلافهم من المتعصبين للعربية بقبول نظرياتهم الواهية. وما زلنا نسمع هذا الكلام يتردد في أواسط المثقفين العرب فتراهم يتوجسون من النهوض بأي ثقافة غير عربية. فنحن في ليبيا عندما نطالب بدسترة اللغة الأمازيغية نجد أكبر المعارضين لذلك المثقفين وخاصة الإسلاميين. وحجتهم في ذلك خوفهم على القرآن والدين الإسلام. وهذا يدفعنا للتساؤل هل الدين ثقافة؟
وقبل أن نجيب على السؤال نرى وبالمقارنة مع العولمة، التي تتقمص أحياننا شكل الدين، هناك بعض المتعصبين لها يرون في التنوع الثقافي بأنه مدعاة للتفكيك وسبباً في تعجيز صناع القوانين في ايجاد قوانين تتوافق مع تناقضات التعددية الثقافية. وسلبيات التعددية الثقافية سنوردها لاحقاً.
هل الدين ثقافة؟
تقريباً جميع الأديان، بما في ذلك العولمة، تؤمن بعدم وجود فوارق بين البشر وأنهم جميعاً منتج لصانع واحد أحد وإن اختلفت المسميات. وبدليل نجد أن لجميع الأديان، إذا ما استثنينا اليهودية، تجد دعاة لهذه الأديان سماوية كانت أم أرضية. ولكن ما أن يدخل في دينها أحد إلا وتحاول أن تجتثه من جذوره فتحاول أن تغير أسمه وملبسه وحتى طريقة أكله وشربه بل تصل إلى حد طرائق ووسائل ترفيهه.
فمسخ ثقافة المسلمين يتصدرها العرب وقد عشت هذا مع بداية الثمانيات في كندا مع حلقات الذكر التي يمتعض فيها الكثير من أخوتنا العرب عندما تكون بالغة الإنجليزية ولا تكون بالعربية كذلك ينسحب الأمر على خطبة الجمعة فلا تروق للكثير منهم إلا بالعربية بالرغم من أنهم أقلية في العدد بالمقارنة مع المسلمين الأسيوين. ولا أنس المسخ الذي وقع على أحد المسلمين الكنديين. ففي سنة 1983 عندما حضرت محاضر للسيد جاري ميلر بجامعة ماك مستر بمدينة هاملتون وأذكر عندما تم تقديمه باسمه نظر بامتعاض وقال أنا عبد الصمد وبالتأكيد هذه ايحاءات أخوتنا العرب الذين تحولقوا حوله من الأخوة الأسلامين العرب النشطين الذين حاولوا معي في تغير أسماء أولادي مازيغ ومادغيس دون جدوى . دارت الأيام وأنا في مونتريال ووجدت نفسي بمدرجات جامعة ميجيل والمحاضر هذه المرة جاري ميلير وليس عبد الصمد فأذكر أن محاضرته عن الدعوة للإسلام إلا أن ما شد انتباهي له هو أنه تبدل خطابه الإسلامي العروبي إلى الإسلامي الكندي الإنساني حيث قال أنا لا يجب أن أضع العراقيل أمام الكنديين الذين يريدون التعرف على الإسلام ومخاوف التنصل من الثقافة الكندية. فأنا أسمي ميلير ويعني بالعربية الطحان فلا يوجد سبب لتغيير أسمي للعربية. ولا يوجد سبب وجيه لتغيير ملابسي أو ثقافتي في الخروج مع نهاية الأسبوع وتناول طعام العشاء أنا وأسرتي خارج البيت بأحد المطاعم. فأنا كندي وأعتز بثقافتي وديني الإسلامي لا يتناقض مع ثقافتي بل يهذبها. قلت في نفسي سبحانه مغير الأحوال! فللثقافة جذور لا يمكن لأي دين او ثقافة أخرى انتزاعها بسهولة. بل في ظل الدين يجب أن تستظل جميع الثقافات من قيظ العنصرية والنرجسية الممقوتة .
ما تقدم يتوافق وما تورده الدكتورة ليلي [4] من قصة للمناضل الفيلسوف ماهاتما غاندي حين يقول : ” لا أريد أن تلتف الجدران حول منزلي ولا أن يحكم اغلاق نوافذي، اريد أن تهب كل ثقافات الارض حول بيتي ، وتحوم بأقصى قدر ممكن من الحرية ولكني أرفض أن تنزعني اي واحدة منها من جذوري “.
تاريخ دراسة التنوع الثقافي “الفرعي”:
توحي بعض المراجع بأن دراسة التنوع الثقافي قد بدأت متأخرة من قبل باحث العلوم الاجتماعية فردريك تراشر سنة 1927 ، وفي سنة 1929 حيث بحث كل من سزرلاند وهولينجشيد في انماط السلوك الإجتماعية، والتي سميت التنوع الفرعي وقد نحت منحى غريب وغير متوقع. فقد اقتصر التنوع الثقافي على عصابات مدينة شيكاغو. وهذا قد يرجع لسبب إطلاق تعبير التنوع الفرعي فالتنوع الثقافي قد يكون أسمى وأرقى من التنوع الفرعي. فالتنوع الثقافي تنسجه لغة وصناعات مطبخ ونسيج ملابس ومفروشات وبسط وأغطية. إضافة إلى أثاث والمقتنيات الفخارية وغيرها.
إلا أنه بدأ مؤخراً مفهوم التنوع الثقافي “يتمحور حول التأكيد على ايجابية التنوع الثقافي وأهمية استمراره و على حق مختلف ( انواع) الثقافات في حفظ كيانها و احترام اوجه اختلافها و تميزها و حماية صناعاتها( الثقافية) و ضرورة تقنين هذا الحق دوليا” [3] وبات ما يعرف بالتعددية الثقافية التي تطرح بصورة ايجابية تفاؤلية. بل وتحمل احيانناً مصطلحات أخرى مثل الخصوصية الثقافية، أو الهوية الثقافية بل وحتى الاستثناء الثقافي.
فالهوية الثقافية لشعب ما هي ما عبر عنها الباحث المنجي أبوسنينة [5] حيث قال : “هي نتاج التجارب المعيشة أي نتاج تاريخه كله، وهي أشد بعدا عن أن تكون شيئا محنطا، وإنما هي ديناميكية حية تحاذي حركة التاريخ، بل قل إنها تصنع التاريخ بذات العملية التي تنحت بها كيانها.”
ايجابيات التنوع الثقافي:
يمكن تلخيص النقاط الايجابية التي تصدر عن التنوع الثقافي فيما يلي [2] [3] :
1. التنوع الثقافي مصدر خصب لإثراء الثقافة الإنسانية.
2. وجود ثقافات متعددة في ظل الإحترام تخلق وتطور النقد الذاتي والتحقيق الذاتي للفرد والثقافة في المجتمع.
3. تساعد وتدعم سن قوانين تضمن احترام الإنسان وحرية وضمان مساواة فرص العمل والتشغيل.
4. التعددية تتوافق وتلبي الغريزة الجمالة للنفس البشرية التي تجده في الاختلاف والتنوع وبعكس الرتابة والتكرار.
5. من المسلمات التي باتت مقبولة أن هناك حد أدنى من التنوع أو التعدد البيولوجي المطلوب لاستمرارية الحياة على كوكبنا ومع رصد لغياب بعض الثقافات نتيجة لزوال بعض التنوع البيولوجي لذلك فاستمرارية التنوع الثقافي سيساعد على بقاء زخم التفاعل الثقافي اللازم للاستمرارية والنماء.
6. التنوع الثقافي في المطبخ والملبس والعمارة يبرز الإبداع الجماعي لكونه يجسد الحرية التي يصيغها الإختلاف البنيوي والفكري للأفراد.
7. يمنح التنوع فرصة التعرف على العادات والتقاليد الأخرى وبذلك إثراء الفكر وتوسيع لمدارك الإنسانية.
8. تتاح للمجتمع قبول ثقافات متنوعة والتعرف على أهميتها والتحاور معها وقبول شرعيتها.
سلبيات التنوع الثقافي:
من جملة السلبيات التي تم التطرق لها بعض البحاث والدارسين بحجة التقليل من شأن التنوع الثقافي [2] [3]:
1. يمكن أن يؤدي التنوع الثقافي لتفكيك المجتمع ، وحدته والنسيج الاجتماعي بداخله فيصبح المجتمع كالفسيفساء لأن لكل ثقافة عاداتها وتقاليدها ونمط حياتها.
2. قد يحد اختلاف أو تنوع الثقافة من اضطراد العلاقات والتداخل السلس بين المكونات المختلفة. فالاختلاف اللغوي قد يحد من التواصل وخلق علاقات اجتماعية.
3. قد يتحول اختلاف وجهات النظر في الأمور العامة إلى صدام ومصدر لفساد العلاقات الاجتماعية بين الجميع وخاصة عندما يغيب التواصل فيكون الاختلاف ، الثقافي ووجهات النظر، مصدر تشويش للعلاقات.
4. قد يؤدي إلى عدم استقرار اجتماعي وخلخلة أو فوضى اجتماعية حيث لا توجد قوانين موحدة لكل الثقافات بسبب الاختلاف في القيم والعادات فلا توجد ثقافة صحيحة ، قيادة واحدة.
5. ربما يساعد التنوع الثقافي في انغلاق الثقافة على نفسها وتكوين إطار خاص بها بعيدا عن الإطار المشترك “الدولة” فينتج عدة كيانات في دولة واحدة وهذا يفكك الإطار العام المشترك لدولة الجميع.
6. قد يتحول الصراع بين الثقافات لصدام عنيف عند محاولة خلق قوانين موحدّة ودستور موحّد للدولة و السيادة فيها وربما قد ينتهي الأمر بحروب أهلية.
تحديات التنوع الثقافي:
ينقل هانس بيترمارتين، وهارلد شومان [7] عن د. بطرس غالي الأمين العام (السابق) للأمم المتحدة في أحدى محاضراته حيث يقول: “إن كوكبنا يخضع لضغط تفرزه قوتان عظيمتان متضادتان: العولمة والتفكك” وبصيغة أخرى يذكر بأن انتصار الرأسمالية لا يعني أبداً نهاية التاريخ .. أنما يعني نهاية ذلك المشروع المسمى بكل جرأة وغرور “الحداثة”. فثمة فعلاً تحول تاريخي بأبعاد عالمية، إذا لم يعد التقدم والرخاء، بل صار التدهور الاقتصادي والتدمير البيئي والانحطاط الثقافي هي الأمور التي تخيم بطابعها على الحياة اليومية للغالبية العظمى من البشرية” [7].
ففي ظل مطرقة العولمة وسندال التفكك أو الانحطاط الثقافي قد يرى البعض بأن كثرة الثقافات المبنية على أساس لغوي أو ديني سيقلل من فرص التواصل بين الناس وسيخلق حواجز بينها. و قد يكون هذا في ظاهره صحيحاً إلا أن المتمعن في ذلك والناظر إلى التعددية الثقافية من زاوية أخرى قد يجد اجابات أخرى غير هذه الحواجز التي قد تظهر للوهلة الأولى عندما تطرح التعددية الثقافية وخاصة نحن نعيش جدلية العولمة والتفكك.
فإلى جانب أن هناك امكانية انجاب ثقافات أخرى قد تصيغها العقول البشرية في المستقبل نتيجة تلاقح أفكار العولمة والتفكك .. وهذا يعتبر تحدي أخر للثقافات الموجودة من زاوية.. إلا أن من أكبر التحديات التي تواجه التنوع الثقافي التحدي الاقتصادي حيث أن المراكز الاقتصادية هي التي باتت تصيغ الشكل الثقافي الذي يمليه السوق وباللغة التي يتكلمها السوق. فالثقافات التي لا يدعمها مراكز اقتصادية، وخاصة ونحن نعيش العولمة الاقتصادية، أو أسواق عمل ستواجه صعوبة في الاستمرارية وقبول أهلها لها. بينما الثقافة التي تخلق سوق وتبني اقتصاد سيتعصب لها أهلها وسيفتخرون بها ويطوروا من شأنها. بل وستتنافس الثقافات الأخرى في مجاراتها والتلون بألوانها وحتى لبس أثوابها.
وبذلك تكون تحديات العولمة فرصة لاستجابة هذه الثقافات ، التي قد تظهر ضعيفة، لمثل هذه التحديات وخلع لباس المسكنة ولبس دروع القوة والتحدي. فالوسائل والإمكانيات ووسائل الاتصال التي توفرها العولمة بالتأكيد ستساعد على فرص الاستجابة لتحديات العولمة.
وكما أوضح أبن خلدون أن الأمم الضعيفة تقتدي بالأمم القوية وتتخذها مثلاً تحتذي به فكذلك الأمر سينسحب على ثقافة تلك الأمم. “فالمغلوب مولع أبداً بالإقتداء بالغالب في شعاره وزيه وحلته وسائر احواله وعوائده .. ترى المغلوب يتشبه ابداً بالغالب في ملبسه ومركبه وسلاحه في اتخاذها وإشكالها ، بل وسائر أحواله” [8]. فالأمة الضعيفة ثقافتها إلى زوال ومقاومتها للغزو الثقافي سيحددها مستوى ثقتها بنفسها واعتمادها على امكانياتها في خلق اقتصاد وسوق لمنتجاتها .
ومن جانب الحفاظ على الثقافات المهددة يرى البعض بأن أدارتها لا تتم بالأسلوب المنتهج في الإدارة
“ان استراتيجية الحفاظ و الحماية ، و خاصة القانونية كما يتم التركيز عليها حاليا، و ان بدت صالحة لإدارة الثقافات او انماط التنوع الثقافي الآيلة للزوال و كذا الثقافات او الاشياء الثقافية التي اصبحت تراثا من الماضي يستحسن ابقاءه على ما هو عليه و حمايته من التغيير كالمدن التاريخية و المخطوطات التراثية فهي ليست الانسب لإدارة ما سبقت الاشارة اليه من انماط التنوع الثقافي او الثقافات الناشئة او الثقافات الحية، و بالتأكيد ليست هي الانسب لإدارة ما للثقافات او انماط التنوع الثقافي الآيلة للزوال من سلبيات يتعين تغييرها و ليس الحفاظ عليها” [3].
فاذا تبين ان التنوع الثقافي محفوظاً بصورة طبيعية و احتماليه اندثاره أو زواله ضعيفة وان ما يحتاج اليه حاليا ليس هو الحفاظ من زواله وانما – وبصورة معاكسة- التغيير الذي يستهدف تطوير نمط التنوع الثقافي الجماعي الاقليمي الى نمط افضل و تحديث و تجديد تلك الثقافات التقليدية. فنستطيع أن نخلص إلى أن استراتيجية الحفاظ لا تمثل الاستراتيجية الانسب لإدارة التنوع الثقافي بوضعه الحالي بل التطوير والتحديث بما في ذلك مواكبة العولمة وخلق اسواق ولو على هامش الأسواق العملاقة.
التنوع الثقافي والوطنية:
يوجد العديد من القواسم المشتركة بين بني البشر، ولو بخلفيات ثقافية مختلفة، ضمن رقعة جغرافية محددة. فالإرتباط بالوطن والذي يمثله العلاقه الحميمية والروحية بالأرض من أقوى العلائق التي عاشها الإنسان عبر العصور. فيتفاعل الإنسان مع التراب ليخلق أشياءتعينه في حياته بل ويتفاعل مع الأرض لتنبت له ما يختاره ليقتات عليه. وضمن الإطار الجغرافي يجد التنوع الثقافي قاسم مشترك بين جميع المواطنيين إلا وهو الأرض. فالمجتمع العمراني يؤسس على الإرتباط بالأرض وبعكس المجتمع البدوي الذي لا ارتباط له بالأرض والجغرافيا أنما يؤسس جميع علائقه على رابطة الدم والتي غالباً ما تنتهي بالشوفانية والنرجسية.
كذلك روح الوطنية تصيغها خلفيات تاريخية أو موروثات تعيش في اللاوعي عند التجمع البشري ضمن حدود الوطن الواحد. فـ “تبنى الهوية الوطنية أكثر مما تعطى جاهزة. وترتكز على عالم أسطوري يتم أعداده في أغلب الأحيان في وقت راهن من الناحية التاريخية” [1]. وتبقى روح التسامح وقبول الأخر من أهم شروط خلق هوية وطنية تترتفع عن الشوفانية التي قد تطفح على السطح لو بنيت الذاكرة التاريخية على أسس نرجسية تعلي من شأن الأنا على حساب نحن الوطن.
إن الترابط ضمن الجغرافيا يخلق للتجمع البشري ولو من ثقافات مختلفة علاقة ود واحترام إن لم نقل إنصهار في أحيانناً كثرة. وخاصة إذا ما حكمته قوانين عادلة لا تفرق بين التكتلات البشرية ضمن الرقعة الجغرافية إلا بما يحقق المساواة بين الجميع. ولنا في وثيقة صحيفة المدينة التي أملاها وصادق عليها المصطفى صل الله عليه وسلم.
بمراجعة السيرة النبوية لابن هشام، 2/150-151. ، نقرأ الآتي: «هذا كتاب من محمد النبي [رسول الله]، بين المؤمنين والمسلمين من قريش و[أهل] يثرب، ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم، 2.أنهم أمّة واحدة مِن دون الناس. 3 …. .وأنّ اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا مُحاربين. 25.وأنّ يهود بني عوف أُمّة مع المؤمنين، لليهود دِينهم وللمسلمين دِينهم، مَواليهم وأنفسهم إلا من ظلَم وأثم، فإنه لا يُوتِغ (أي لا يهلك) إلا نفسه وأهل بيتِه. 26. … وأنه لا يحول هذا الكتابُ دون ظالمٍ أو آثم، وأنه مَن خرجَ آمِنٌ ومن قعد آمِنٌ بالمدينة، إلا مَن ظلم وأثم، وأنّ الله جارٌ لمن بَرَّ واتّقى ومحمد رسول الله [ صلى الله عليه وسلم.»
فقد جمع سيدنا المصطفى بين المؤمنين والمسلمين من قريش وأهل يثرب ومن تبعهم، ويهود بني عوف كلهم أمة واحدة من دون الناس. فبالرغم من التجديد الذي تعيشه المدينة في القيم والأخلاق إلا أنه حافظ على الثقافات المختلفة وبدون التردد في ايجاد الفرص للتطور ضمن إطار الأمة الواحدة التي تحترم الجميع.
في الدول المعاصرة سعت الكثير من الدول ، ومنها الهند، لتوظيف التنوع الثقافي والتعددية اللغوية والدينية إلى ما يخدم المجتمع. وفي أول خطاب لجواهر لال نهرو، أول رئيس وزراء هندي، في خطاب وجهه لوزراء الحكومات المحلية [6]: “إن التنوع في المجتمع الهندي هائل وبديهي. وهذا التنوع يمكن مشاهدته في كل ما حولنا، ولكنه موجود أيضا حتى على مستوى الملامح وعلى مستوى طرق التفكير. ورغم كل هذا التنوع الهائل، لا يمكن أن نخطئ في كوننا دولة موحدة”. فهذا القاسم المشترك بين الجميع أن الدولة الواحدة يمكن أن تتضمن في داخلها ثقافات متعددة وبدون أن يتعارض ذلك مع وحدتها.
فمثال المدينة ودولة الهند مثالين نستطيع أن نؤكد من خلالهما أن التعددية الثقافية لا تتعارض مع الوحدة الوطنية ضمن الرقعة الجغرافية. بالطبع يمكن ضمان ذلك ضمن شرط المساواة وعدم الخلط بين المسؤوليات الفردية والمسؤوليات الأثنية أو الثقافية.
آمال تلوح في الأفق:
بالرغم من الهجمة الشرسة للعولمة على ، تقريباً ، جميع الثقافات إلا أنه هناك مقاومة مضادة تشرف عليها بعض المؤسسات الدولية. كما وأن الوعي الجماعي للأمة الإنسانية بضرورة الحفاظ على الموروث الإنساني بالتأكيد عوامل مساعدة وداعمة للتنوع الثقافي. فعلى سبيل المثال إعلان اليونسكو حول التنوّع الثقافي الصادر سنة 2002. إضافة إلى ما سبقه من إعلان عاصمة المكسيك حول السياسات الثقافية لسنة 1982، والنصوص المتعلقة بحماية الثقافة التقليدية والشعبية لسنة 1989،
نسمع أيضاَ بأن”المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم تعمل – بتعاون مع اليونسكو ومختلف الهيئات العالمية المتخصصة – على فرض حق الاختلاف الثقافي والفكري باعتباره حقا لا تنازل عنه من حقوق الأفراد والشعوب والحضارات في التعبير عن وجودها بحريّة وعن رؤاها للعالم وعن هوياتها النابضة بالحياة.” [5].
وبالرغم من أن هناك مخاوف من تحول الحداثة ، ولا نقول العولمة، إلى عامل هدم للثقافات القديمة إلا أن ذلك ليس بالضرورة صحيح. فكما أسلفنا كل التطورات التي تشهدها مؤسسات عالمية مثل اليونسكو أو غيرها من المؤسسات التابعة للأمم المتحدة تؤكد على دفاعها على الثقافات القديمة وضمان استمرارية التعددية الثقافية بل وحمايتها من أي تهديدات قد تواجهها.
رغبة الناس في التعرف على ثقافات مختلفة وشد الرحال لها سيساعد في خلق روح المقاومة لبعض الثقافات المهددة بالانكماش والانحسار أو حتى الإنقراض. وستصل المقاومة أوجها لو راجعت تلك الثقافات نفسها وطورت صناعة السياحة وفتحت سوق اقتصادي لها.
بالطبع ما أسلفناه مجرد خطوات أولية نحو ضمان استمرارية أي ثقافة من الزوال بينما يبقى العامل الرئيس في تقويتها أن يضمن لها المجتمع، ومن خلال الدستور، مسؤولية تطويرها والمحافظة عليها. كما وأن تصحيح علاقة الدين بالثقافات وتأكيد روح التسامح الديني مع جميع الثقافات سيساعد على نمو التعددية الثقافية وبما يخدم الإنسانية.
بات وعي المثقفين بالتعددية الثقافية مبعث أمل وروح تفاؤل فقد : ” آن الأوان للاعتراف بالثقافة كوسيلة للتغيير وآلية للتنمية وركيزة للسلام.اننا إذ ندعو إلي اهمية استثمار الثقافة في تصحيح السلوك فإننا ندعو ايضا إلي دعم ونشر ثقافة الثقافة أي نشر الثقافة التي تعطي الثقافة حقها وتضعها في إطارها الصحيح” [4]. وحيث أن الحياة المعاصرة تعيش ثورة الاتصالات التي بالتأكيد ستخدم التواصل الثقافي وستعمل على نشر ثقافة الثقافة. وهذه بواعث آمل في حياة أفضل في اطار التواصل الثقافي بين التجمعات البشرية.
الخلاصة:
عبر التاريخ ، وحتى وقتنا هذا، استُغِل الدين الإسلامي وغيره في طمس معالم بعض الثقافات بحجة التمسك بالدين أو الانحياز لثقافة أولي الأمر ودُعاتهم. وبالرغم من الإعلانات الدولية لحماية ثقافات الشعوب ولغاتهم وآثارهم إلا ان أخطر ما يواجهه التنوع الثقافي رجالات الدين بما فيه العولمة.
فبالرغم من اتفاق كل المصلحين الاجتماعيين والحقوقيين بأهمية التعددية الثقافية ودورها في أثراء التجارب الإنسانية إلا أن أخطر ما تواجهه التعددية الثقافية يتمثل في التطرف الديني بما في ذلك العولمة. فبكل أسف الدعاة المتعصبين لأي دين ، ولو كانت العولمة، يريدون للجميع مقاس واحد للثقافة يلبسه الجميع. لأنه بهذه المظاهر النمطية تتجلى لهم القوة لهذا الدين أو ذاك، وبنشوة النرجسية يرون من حقهم إقصاء الثقافات الأخرى عندما يتملكون زمام الحكم والاقتصاد.
وفي الختام وكوسيلة لإيجاد صيغة توافق بين الدين والتعددية والتنوع الثقافي نوصي بجملة من التوصيات وهي على النحو التالي:
1. تصحيح مفهوم العلاقة بين الدين والتنوع الثقافي. ورأب الصدع الذي يخلقه المتطرفين بين الدين وتنمية الثقافات غير العربية وتطويرها وبما يضمن عدم تعارض الدين والوطنية
2. لا يتم الحفاظ على المورثات الثقافية بالانكفاء والانغلاق على نفسها بل بالانفتاح ضمن حسابات تؤكد التطوير والتقدم.
3. حماية المورثات الثقافية للمجتمع وتوظيفها في خلق تنمية من خلال:
1. فتح أقسام للصناعات الحرفية التقليدية وتنميتها.
2. دعم المهرجانات السياحية التي تحافظ على مختلف الثقافات.
3. دعم مراكز البحث والتدريس للغات: الأمازيغية، والتباوية.
4. على الإعلام أن يلعب دوره في ايجاد صيغه للتفاهم والتوافق بين الدين وقبول التعددية والتنوع الثقافي.
5. تضمين مقررات تهتم بالتنوع الثقافي في ليبيا والعالم بالأقسام العلمية ضمن كليات العلوم الاجتماعية والسياسية وتشجيع كتابة الرسائل العلمية لتناقش وتبحث في التنوع الثقافي.
المراجع:
[1] فيليب ديريبارن، ترجمة: محمد الهلالي “التفكير في تنوع العالم” ، دار توبقال للنشر، ص ص 12-13 ، 2008.
[2] مشعل بن شرد العنزي، “الثقافات الفرعية والنظام التربوي”،
[3] ( )، “التنوع الثقافي و الحداثة: حوار بين الاقاليم” ندوة اليونسكو، مؤسسة منصور الثقافية ، باريس 6-7/5/2004 .
[4] د. ليلي تكلا ، “التنوع الثقافي .. وثقافة الثقافة”، ، الأهرام،
[5] د. المنجي أبوسنينة، “التنوع الثقافي والإختلاف”، مداخلة ألقيت ضمن أعمال الندوة الدولية “الاسلام والسلام” التي نظمتها وزارة الشؤون الدينية بتونس بالاشتراك مع الأمانة العامة لمنظمة المؤتمر الاسلامي.http://www.mafhoum.com/press5/153S28.htm
[6] محمد بن جماعة، التنوع الإسلامي، ” تجارب الدول المعاصرة (2/7): نموذج الهند”، 14 يوليو 2010http://www.alwihdah.com
[7] هانس بيترمارتين، وهارلد شومان، ترجمة د. عدنان عباس علي، “فخ العولمة .. الاعتداء على الديمقراطية والرفاهية”، عالم المعرفة ، العدد 295، الطبعة الثانية أغسطس 2003، ص ص 74-75.
[8] د. محمد عبدالرحمن مرحبا، “جديد في مقدمة أبن خلدون”، سلسلة ربي زدني علما، منشورات عويدات، بيرروت-باريس، الطبعة الأولى 1989، ص ص 138.